فصل: ذكر الخطبة لملكشاه بن بركيارق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر استيلاء صدقة على واسط

في هذه السنة في شوال انحدر سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى واسط في عسكر كثير وأمر فنودي بها في الأتراك‏:‏ من أقام فقد برئت منه الذمة فسار جماعة منهم إلى بركيارق وجماعة إلى بغداد وصار مع صدقة جماعة منهم ثم إنه أحضر مهذب الدولة بن أبي الجبر صاحب البطيحة فضمنه البلد لمدة آخرها آخر السنة بخمسين ألف دينار وعاد إلى الحلة وأقام مهذب الدولة بواسط إلى سادس ذي القعدة وانحدر إلى بلده‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول أطلق سديد الملك أبو المعالي من الاعتقال وهو الذي كان وزير الخليفة ولما أطلق هرب إلى الحلة السيفية ومنها إلى السلطان بركيارق فولاه الإشراف على ممالكه‏.‏

وفيها توفي أمين الدولة أبو سعد العلاء بن الحسن بن الموصلايا فجأة وكان قد أضر وكان بليغًا فصيحًا وكان ابتداء خدمته للقائم بأمر الله سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة خدم الخلفاء خمسًا وستين سنة كل يوم تزداد منزلته حتى تاب عن الوزارة وكان نصرانيًا فأسلم سنة أربع وثمانين وكان كثير الصدقة جميل المحضر صالح النية ووقف أملاكه على أبواب البر ومكاتباته مشهورة حسنة ولما مات خلع على ابن أخته أبي نصر ولقب نظام الحضرتين وقلد وفيها كانت ببغداد بين العامة فتن كثيرة وانتشر العيارون‏.‏

وفيها قتل أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي وكان من الحذاق في الطب وله فيه إصابات حسنة‏.‏

وفيها عزل السلطان سنجر وزيره المجير أبا الفتح الطغرائي وسبب ذلك أن الأمير بزغش وهو أصفهسلار العسكر السنجري ألقي إليه ملطف فيه‏:‏ لا يتم لك أمر مع هذا السلطان ووقع إلى سنجر لا يتم لك أمر مع الأمير بزغش مع كثرة جموعه فجمع بزغش أصحاب العمائم وعرض عليهم الملطفين فاتفقوا على كاتب الطغرائي وظهرت عليه فقتل وقبض سنجر على الطغرائي وأراد قتله فمنعه بزغش وقال له‏:‏ حق خدمة فأبعده إلى غزنة‏.‏

وفيها جمع بزغش كثيرًا من عساكر خراسان وأتاه كثير من المتطوعة وسار إلى قتال الإسماعيلية فقصد طبس وهي لهم فخربها وما جاورها من القلاع والقرى وأكثر فيهم القتل والنهب والسبي وفعل بهم الأفعال العظيمة ثم إن أصحاب سنجر أشاروا بأن يؤمنوا ويشرط عليهم أنهم لا يبنون حصنًا ولا يشترون سلاحًا ولا يدعون أحدًا إلى عقائدهم فسخط كثير من الناس هذا الأمان وهذا الصلح ونقموه على سنجر ثم إن بزغش بعد عوده من هذه الغزاة توفي وكانت خاتمة أمره الجهاد رحمه الله‏.‏

وفي رجب توفي القاضي أبو الحسين أحمد بن محمد الثقفي قاضي الكوفة ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وهو من ولد عروة بن مسعود ومن تلاميذ القاضي الدامغاني وولي القضاء بعده ابنه أبو البركات‏.‏

وفي ربيع الآخر توفي أبو عبد الله الحسين بن علي بن البسري البندار المحدث ومولده سنة أربع وأربعمائة‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

  ذكر وفاة السلطان بركيارق

في هذه السنة ثاني عشر ربيع الآخر توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه وكان قد مرض بأصبهان بالسل والبواسير فسار منها في محفة طالبًا بغداد فلما وصل إلى بروجرد ضعف عن الحركة فأقام بها أربعين يومًا فاشتد مرضه فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر وخلع على الأمير إياز وأحضر جماعة من الأمراء وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة وجعل الأمير إياز أتابكه وأمرهم بالطاعة لهما ومساعدتهما على حفظ السلطنة لولده والذب عنها فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة وبذل النفوس والأموال في حفظ ولده وسلطنته عليه واستحلفهم على ذلك فحلفوا وأمرهم بالمسير إلى بغداد فساروا فلما كانوا على اثني عشر فرسخًا من بروجرد وصلهم خبر وفاته وكان بركيارق قد تخلف على عزم العود إلى أصبهان فعاجلته منيته‏.‏

فلما سمع الأمير إياز بموته أمر وزيره الخطير المبيذي وغيره بأن يسيروا مع تابوته إلى أصبهان فحمل إليها ودفن في تربة جددتها له سريته ثم ماتت بعد أيام فدفنت بإزائه وأحضر إياز السرادقات والخيام والجتر والشمسة وجميع ما يحتاج إليه السلطان فجعله برسم ولده ملكشاه‏.‏

  ذكر عمره وشيء من سيرته

لما توفي بركيارق كان عمره خمسًا وعشرين سنة ومدة وقوع اسم السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة وملك وزواله وأشرف في عدة نوب بعد إسلام النعمة على ذهاب المهجة‏.‏

ولما قوي أمره في هذا الوقت وأطاعه المخالفون وانقادوا له أدركته منيته ولم يهزم في حروبه غير مرة واحدة وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع حتى إنهم كانوا يطلبون نوابه ليقتلوهم فلا يمكنه الدفع عنهم وكان متى خطب به ببغداد وقع الغلاء ووقفت المعايش والمكاسب وكان أهلها مع ذلك يحبونه ويختارون سلطنه‏.‏

وقد ذكرنا من تغلب الأحوال به ما وقفت عليه ومن أعجبها دخوله أصبهان هاربًا من عمه تتش فمكنه عسكر أخيه محمود صاحبها من دخولها ليقبضوا عليه فاتفق أن أخاه محمودًا مات فاضطروا إلى أن يملكوه وهذا من أحسن الفرج بعد الشدة‏.‏

وكان حليمًا كريمًا صبورًا عاقلًا كثير المداراة حسن القدرة لا يبالغ في العقوبة وكان عفوه أكثر من عقوبته‏.‏

  ذكر الخطبة لملكشاه بن بركيارق

في هذه السنة خطب لملكشاه بن بركيارق بالديوان يوم الخميس سلخ ربيع الآخر وخطب له بجوار بغداد من الغد يوم الجمعة‏.‏

وكان سبب ذلك أن إيلغازي شحنة بغداد سار في المحرم إلى السلطان بركيارق وهو بأصبهان يحثه على الوصول إلى بغداد ورحل مع بركيارق فلما مات بركيارق سار مع ولده ملكشاه والأمير إياز إلى بغداد فوصلوها سابع عشر ربيع الآخر ولقوا في طريقهم بردًا شديدًا لم يشاهدوا مثله بحيث أنهم لم يقدروا على الماء لجموده‏.‏

وخرج الوزير أبو القاسم علي بن جهير فلقيهم من ديالى وكانوا خمسة آلاف فارس وحضر إيلغازي والأمير طغايرك بالديوان وخاطبوا في إقامة الخطبة لملكشاه بن بركيارق فأجيب إليها وخطب له ولقب بألقاب جده ملكشاه وهي جلال الدولة وغيره من الألقاب ونثرت الدنانير عند الخطبة له‏.‏

  ذكر حصر السلطان محمد جكرمش بالموصل

لما اصطلح السلطان بركيارق والسلطان محمد كما ذكرناه في السنة الخالية وسلم محمد مدينة أصبهان إلى بركيارق وسار إليها أقام محمد بتبريز من أذربيجان إلى أن وصل أصحابه الذين بأصبهان فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره كان في حفظ أصبهان وأقام إلى صفر من هذه السنة وسار إلى مراغة ثم إلى إربل يريد قصد جكرمش صاحب الموصل ليأخذ بلاده‏.‏

فلما سمع جكرمش بمسيره إليه جدد سور الموصل ورم ما احتاج إلى إصلاح وأمر أهل وحصر محمد المدينة وأرسل إلى جكرمش يذكر له الصلح بينه وبين أخيه وأن في جملة ما استقر أن تكون الموصل وبلاد الجزيرة له وعرض عليه الكتب من بركيارق إليه بذلك والأيمان على تسليمها إليه وقال له‏:‏ إن أطعت فأنا لا آخذها منك بل أقرها بيدك وتكون الخطبة لي بها‏.‏

فقال جكرمش‏:‏ إن كتب السلطان وردت إلي بعد الصلح تأمرني أن لا أسلم البلد إلى غيره‏.‏

فلما رأى محمد امتناعه باكره القتال وزحف إليه بالنقابين والدبابات وقاتل أهل البلد أشد قتال وقتلوا خلقًا كثيرًا لمحبتهم لجكرمش لحسن سيرته فيهم فأمر جكرمش ففتح في السور أبواب لطاف يخرج منها الرجالة يقاتلون فكانوا يكثرون القتل في العسكر ثم زحف محمد مرة فنقب في السور أصحابه وأدركهم الليل فأصبحوا وقد عمره أهل البلد وشحنوه بالمقاتلة وكانت الأسعار عندهم رخيصة في الحصار‏:‏ كانت الحنطة تساوي كل ثلاثين مكوكًا بدينار والشعير خمسين مكوكًا بدينار‏.‏

وكان بعض عسكر جكرمش قد اجتمعوا بتل يعفر فكانوا يغيرون على أطراف العسكر ويمنعون الميرة عنهم فدام القتال عليهم إلى عاشر جمادى الأولى فوصل الخبر إلى جكرمش بوفاة السلطان بركيارق فأحضر أهل البلد واستشارهم فيما يفعله بعد موت السلطان فقالوا‏:‏ أموالنا وأرواحنا بين يديك وأنت أعرف بشأنك فاستشر الجند فهم أعرف بذلك‏.‏

فاستشار أمراءه فقالوا‏:‏ لما كان السلطان حيًا قد كنا على الامتناع ولم يتمكن أحد من طروق بلدنا وحيث توفي فليس للناس اليوم سلطان غير هذا والدخول تحت طاعته أولى‏.‏

فأرسل إلى محمد يبذل الطاعة ويطلب وزيره سعد الملك ليدخل إليه فحضر الوزير عنده وأخذ بيده وقال‏:‏ المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه وأخذ بيده وقام فسار معه جكرمش فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان جعلوا يبكون ويضجون ويحثون التراب على رؤسهم فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه وأكرمه وعانقه ولم يمكنه من الجلوس وقال‏:‏ ارجع إلى رعيتك فإن قلوبهم إليك وهم متطلعون إلى عودك فقبل الأرض وعاد ومعه جماعة من خواص السلطان وسأل السلطان من الغد أن يدخل البلد ليزين له فامتنع من ذلك فعمل سماطًا بظاهر الموصل عظيمًا وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار‏.‏

  ذكر وصول السلطان إلى بغداد وصلحه مع ابن أخيه والأمير إياز

لما وصل خبر وفاة السلطان بركيارق إلى أخيه السلطان محمد وهو يحاصر الموصل جلس للعزاء وأصلح جكرمش صاحب الموصل كما ذكرناه وسار إلى بغداد ومعه سكمان القطبي وهو ينسب إلى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتي بن داود وإسماعيل ابن عم ملكشاه وسار معه جكرمش وغيرهما من الأمراء‏.‏

وكان سيف الدولة صدقة صاحب الحلة قد جمع خلقًا كثيرًا من العساكر فبلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس وعشرة آلاف راجل وأرسل ولديه بدران ودبيسًا إلى السلطان محمد يستحثه على المجيء إلى بغداد فاستصحبهما معه إلى بغداد‏.‏

فلما سمع الأمير إياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذي معه من الدور ونصبوا الخيام بالزاهر خارج بغداد وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعله فبذلوا له الطاعة واليمين على قتاله وحربه ومنعه عن السلطنة والاتفاق معه على طاعة ملكشاه بن بركيارق‏.‏

وكان أشدهم في ذلك ينال وصباوة فإنهما بالغا في الإطماع في السلطان محمد والمنع له عن السلطنة فلما تفرقوا قال له وزيره الصفي أبو المحاسن‏:‏ يا مولانا إن حياتي مقرونة بثبات نعمتك ودولتك وأنا أكثر التزامًا بك من هؤلاء وليس الرأي ما أشاروا به فإن كلامهم يقصد أن يسلك طريقًا وأن يقيم سوقًا لنفسه بك وأكثرهم يناوئك في المنزلة وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال والصواب مصالحة السلطان محمد وطاعته وهو يقرك على فتردد الأمير إياز بين الصلح والمباينة إلا أن حركته في المباينة ظاهرة وجمع السفن التي ببغداد عنده وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره وإلى البلد‏.‏

ووصل السلطان محمد إلى بغداد يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى ونزل عند الجانب الغربي بأعلى بغداد وخطب له بالجانب الغربي ولملكشاه بن بركيارق بالجانب الشرقي وأما جامع المنصور فإن الخطيب قال فيه‏:‏ اللهم أصلح سلطان العالم‏!‏ وسكت‏.‏

وخاف الناس من امتداد الشر والنهب فركب إياز في عسكره وهم عازمون على الحرب وسار إلى أشرف على عسكر السلطان محمد وعاد إلى مخيمه فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه فأجاب البعض وتوقف البعض وقالوا‏:‏ قد حلفنا مرة ولا فائدة في إعادة اليمين لأننا إن وفينا بالأولى وفينا بالثانية وإن لم نف بالأولى فلا نفي بالثانية‏.‏

فأمر إياز حينئذ وزيره الصفي أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد في الصلح وتسليم السلطنة إليه وترك منازعته فيها فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد واجتمع بوزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد فعرفه ما جاء فيه فحضرا عند السلطان محمد وأدى الصفي رسالة صاحبه إياز واعتذاره عما كان منه أيام بركيارق فأجابه محمد جوابًا لطيفًا سكن به قلبه وطيب نفسه وأجاب إلى ما التمس منه من اليمين‏.‏

فلما كان الغد حضر قاضي القضاة والنقيبان والصفي وزير إياز عند السلطان محمد فقال له وزيره سعد الملك‏:‏ إن إياز يخاف لما تقدم منه وهو يطلب العهد لملكشاه ابن أخيك ولنفسه وللأمراء الذين معه‏.‏

فقال السلطان‏:‏ أما ملكشاه فإنه ولدي ولا فرق بيني وبين أخي وأما إياز والأمراء فأحلف لهم إلا ينال الحسامي وصباوة فاستحلفه الكيا الهراس مدرس النظامية على ذلك وحضر الجماعة اليمين‏.‏

فلما كان من الغد حضر الأمير إياز عند السلطان محمد فلقيه وزير السلطان والناس كافة ووصل سيف الدولة صدقة ذلك الوقت ودخلا جميعًا إلى السلطان فأكرمهما وأحسن إليهما وقيل بل ركب السلطان ولقيهما ووقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان وسار إلى أصبهان وفعل فيها ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر قتل الأمير إياز

في هذه السنة ثالث عشر جمادى الآخرة قتل الأمير إياز وقتله السلطان محمد‏.‏

وسبب ذلك أن إياز لما سلم السلطنة إلى السلطان محمد صار في جملته واستحلفه لنفسه فلما كان ثامن جمادى الآخرة عمل دعوة عظيمة في داره وهي دار كوهرائين ودعا السلطان إليها وقدم له شيئًا كثيرًا من جملته الحبل البلخش الذي أخذ من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك وقد تقدم ذكر ذلك وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد‏.‏

وكان من الاتفاق الرديء أن إياز تقدم إلى غلمانه ليلبسوا السلاح من خزانته ليعرضهم على السلطان فدخل عليهم رجل من أبهر يتطايب معهم ويضحكون منه مع كونه يتصوف فقالوا له‏:‏ لا بد من أن نلبسك درعًا ونعرضك فألبسوه الدرع تحت قميصه وتناولوه بأيديهم وهو يسألهم أن يكفوا عنه فلم يفعلوا فلشدة ما فعلوا هرب منهم ودخل بين خواص السلطان معتصمًا بهم فرآه السلطان مذعورًا وعليه لباس عظيم فاستراب به فقال لغلام له بالتركية ليلمسه من غير أن يعلم أحد ففعل فرأى الدرع تحت قميصه فأعلم السلطان بذلك فاستشعر وقال‏:‏ إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا السلاح فكيف الأجناد‏!‏ وقوي استشعاره لكونه في داره وفي قبضته فنهض وفارق الدار وعاد إلى داره‏.‏

فلما كان ثالث عشر الشهر استدعى السلطان الأمير صدقة وإياز وجكرمش وغيرهم من الأمراء فلما حضروا أرسل إليهم‏:‏ إنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها وسير منها إلى الجزيرة وينبغي أن تجتمع أراؤهم على من يسير إليه ليمنعه ويقاتله‏.‏

فقال الجماعة‏:‏ ليس لهذا غير الأمير إياز فقال إياز‏:‏ ينبغي أن نجتمع أنا وسيف الدولة صدقة بن مزيد على هذا الأمر والدفع لهذا القاصد فقيل ذلك للسلطان فأعاد الجواب يستدعي إياز وصدقة والوزير سعد الملك ليحرر الأمر في حضرته فنهضوا ليدخلوا إليه‏.‏

وكان قد أعد جماعة من خواصه ليقتلوا إياز إذا دخل إليه فلما دخلوا ضرب أحدهم رأسه فأبانه‏.‏

فأما صدقة فغطى وجهه بكمه وأما الوزير فإنه غشي عليه ولف إياز في مسح وألقي على الطريق عند دار المملكة وركب عسكر إياز فنهبوا ما قدروا عليه من داره فأرسل السلطان من حماها من النهب وتفرق أصحابه من يومهم وكان زوال تلك النعمة العظيمة والدولة الكبيرة في لحظة بسبب هزل ومزاح فلما كان من الغد كفنه قوم من المتطوعة ودفنوه في المقابر المجاورة لقبر أبي حنيفة رحمه الله‏.‏

وكان عمره قد جاوز أربعين سنة وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه ثم صار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولدًا وكان غزير المروة شجاعًا حسن الرأي في الحرب‏.‏

وأما وزيره الصفي فإنه اختفى ثم أخذ وحمل إلى دار الوزير سعد الملك ثم قتل في رمضان وعمره ست وثلاثون سنة وكان من بيت رئاسة بهمذان‏.‏

  ذكر وفاة سقمان بن أرتق

كان فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس قد كاتب سقمان يستدعيه إلى نصرته على الفرنج ويبذل له المعونة بالمال والرجال فبينما هو يتجهز للمسير أتاه كتاب طغتكين صاحب دمشق يخبره أنه مريض قد أشفى من الموت وأنه يخاف إن مات وليس بدمشق من يحميها أن يملكها الفرنج ويستدعيه ليوصي إليه وبما يعتمده في حفظ البلد‏.‏

فلما رأى ذلك أسرع في السير عازمًا على أخذ دمشق وقصد الفرنج في طرابلس وإبعادهم عنها فوصل إلى القريتين‏.‏

واتصل خبره بطغتكين فخاف عاقبة ما صنع ولقوة فكره زاد مرضه‏.‏

ولامه أصحابه على ما فرط في تدبيره وخوفوه عاقبة ما فعل وقالوا له‏:‏ قد رأيت سيدك تاج الدولة لما استدعاه إلى دمشق ليمنعه كيف قتله حين وقعت عينه عليه‏.‏

فبينما هم يديرون الرأي بأي حيلة يردونه أتاهم الخبر بأنه وصل القريتين ومات وحمله أصحابه وعادوا به فأتاهم فرج لم يحسبوه وكان مرضه الذي مات به الخوانيق يعتريه دائمًا فأشار عليه صاحباه بالعود إلى حصن كيفا فامتنع وقال‏:‏ بل أسير فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد‏.‏

فساروا فاعتقل لسانه يومين ومات في صفر وبقي ابنه إبراهيم في أصحابه وجعل في تابوت وحمل إلى الحصن وكان حازمًا داهيًا ذا رأي كثير الخير وقد ذكرنا سبب أخذه وأما ملكه ماردين فإن كربوقا خرج من الموصل قفصد آمد وحارب صاحبها فاستنجد صاحبها وهو تركماني بسقمان فحضر عنده وصاف كربوقا‏.‏

وكان عماد الدين زنكي بن آقسنقر حينئذ صبيًا قد حضر مع كربوقا ومعه جماعة كثيرة من أصحاب أبيه فلما اشتد القتال ظهر سقمان فألقى أصحاب آقسنقر زنكي ولد صاحبهم بين أرجل الخيل وقالوا‏:‏ قاتلوا عن ابن صاحبكم‏!‏ فقاتلوا حينئذ قتالًا شديدًا فانهزم سقمان وأسروا ابن أخيه ياقوتي بن أرتق فسجنه كربوقا بقلعة ماردين وكان صاحبها إنسانًا مغنيًا للسلطان بركيارق فطلب منه ماردين وأعمالها فأقطعه إياها فبقي ياقوتي في حبسه مدة فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا وسألته إطلاقه فأطلقه فنزل عند ماردين وكانت قد أعجبته فأقام ليعمل في تملكها والاستيلاء عليها‏.‏

وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغني وأغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات فراسله ياقوتي يقول‏:‏ قد صار بيننا مودة وصداقة وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد وأغير على الأماكن وآخذ الأموال أنفقها في بلدك وأقيم في الربض فأذن له في ذلك فجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد فصار ينزل معه بعض أجناد القلعة طلبًا للكسب وهو يكرمهم ولا يعترضهم فأمنوا إليه‏.‏

فاتفق أن في بعض الأوقات نزل معه أكثرهم فلما عادوا من الغارة أمر بقبضهم وتقييدهم وسبقهم إلى القلعة ونادى من بها من أهليهم‏:‏ إن فتحتم الباب وإلا ضربت أعناقهم فامتنعوا فقتل إنسانًا منهم فسلم القلعة من بها إليه وبقي بها‏.‏

ثم إنه جمع جمعًا وسار إلى نصيبين وأغار على بلد جزير ابن عمر وهي لجكرمش فلما عاد أصحابه بالغنيمة أتاهم جكرمش وكان ياقوتي قد أصابه مرض عجز معه عن لبس السلاح وركوب الخيل فحمل إلى فرسه فركبه وأصابه سهم فسقط منه فأتاه جكرمش وهو يجود بنفسه فبكى عليه وقال له‏:‏ ما حملك على ما صنعت يا ياقوتي فلم يجبه فمات ومضت زوجة أرتق إلى ابنها سقمان وجمعت التركمان وطلبت بثأر ابن ابنها وحصر سقمان نصيبين وهي لجكرمش فسير جكرمش إلى سقمان مالًا كثيرًا سرًا فأخذه ورضي وقال‏:‏ إنه قتل في الحرب ولا يعرف قاتله‏.‏

وملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي وصار في طاعة جكرمش واستخلف بها أميرًا اسمه علي أيضًا فأرسل علي الوالي بماردين إلى سقمان يقول له‏:‏ ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش فسار سقمان بنفسه وتسلمها فجاء إليه علي ابن أخيه وطلب إعادة القلعة إليه فقال‏:‏ إنما أخذتها لئلا يخرب البيت فأقطعه جبل جور ونقله إليه‏.‏

وكان جكرمش يعطي عليًا كل سنة عشرين ألف دينار فلما أخذ عمه سقمان ماردين منه أرسل علي إلى جكرمش يطلب منه المال فقال‏:‏ إنما كنت أعطيتك احترامًا لماردين وخوفًا من مجاورتك والآن فاصنع ما أنت صانع فلا قدرة لك علي‏.‏

  ذكر حال الباطنية هذه السنة بخراسان

في هذه السنة سار جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيت عن بعض أعمال بيهق وشاعت الغارة في تلك النواحي وأكثروا القتل في أهلها والنهب لأموالهم والسبي لنسائهم ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة‏.‏

وفي هذه السنة اشتد أمرهم وقويت شوكتهم ولم يكفوا أيديهم عمن يريدون قتله لاشتغال السلاطين عنهم‏.‏

فمن جملة فعلهم‏:‏ أن قفل الحاج تجمع هذه السنة مما وراء النهر وخراسان والهند وغيرها من البلاد فوصلوا إلى جوار الري فأتاهم الباطنية وقت السحر فوضعوا فيهم السيف وقتلوهم كيف شاؤوا وغنموا أموالهم ودوابهم ولم يتركوا شيئًا‏.‏

وقتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط وهو من شيوخ الشافعية أخذ الفقه عن الخجندي وكان يدرس بالري ويعظ الناس فلما نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله‏.‏

في هذه السنة في شعبان كانت وقعة بين طنكري الفرنجي صاحب أنطاكية وبين الملك رضوان صاحب حلب انهزم فيها رضوان‏.‏

وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح وبه نائب الملك رضوان فضيق الفرنج على المسلمين فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة وسبعة آلاف من الرجالة منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة فساروا حتى وصلوا إلى قنسرين وبينهم وبين الفرنج قليل فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح فأراد أن يجيب فمنعه أصبهبذ صباوة وكان قد قصده وصار معه بعد قتل إياز فامتنع من الصلح واصطفوا للحرب فانهزمت الفرنج من غير قتال ثم قالوا‏:‏ نعود ونحمل عليهم حملة واحدة فإن كانت لنا وإلا انهزمنا فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا وانهزموا وقتل منهم وأسر كثير‏.‏

وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا فاشتغلوا بالنهب فقتلهم الفرنج ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيرًا وهرب من في أرتاح إلى حلب وملكه الفرنج لعنهم الله تعالى وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق فصار معه ومن أصحابه‏.‏

في ذي الحجة من هذه السنة كانت وقعة بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء‏.‏

وسببها أن الأفضل وزير صاحب مصر كان قد سير ولده شرف المعالي في السنة الخالية إلى الفرنج فقهرهم وأخذ الرملة منهم ثم اختلف المصريون والعرب وادعى كل واحد منهما أن الفتح له فأتاهم سرية الفرنج فتقاعد كل فريق منهما بالآخر حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر فنفذ ولده الآخر وهو سناء الملك حسين في جماعة من الأمراء منهم جمال الملك والنائب بعسقلان للمصريين وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق يطلبون منه عسكرًا فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس‏.‏

وكان المصريون في خمسة آلاف وقصدهم بغدوين الفرنجي صاحب القدس وعكة ويافا في ألف وثلاثمائة فارس وثمانية آلاف راجل فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى فقتل من المسلمين ألف ومائتان ومن الفرنج مثلهم وقتل جمال الملك أمير عسقلان‏.‏

فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافأوا في النكاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان وعاد صباوة إلى دمشق وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق وهو طفل وقد ذكرناه فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج والكون معهم‏.‏

في هذه السنة عظم فساد التركمان بطريق خراسان من أعمال العراق قد كانوا قبل ذلك ينهبون الأموال ويقطعون الطريق إلا أنهم عندهم مراقبة‏.‏

فلما كانت هذه السنة اطرحوا المراقبة وعملوا الأعمال الشنيعة فاستعمل إيلغازي بن أرتق وهو شحنة العراق على ذلك البلد ابن أخيه بلك بن بهرام بن أرتق وأمره بحفظه وحياطته ومنع الفساد عنه فقام في ذلك القيام المرضي وحمى البلاد وكف الأيدي المتطاولة وسار بلك إلى حصن خانيجار وهو من أعمال سرخاب بن بدر فحصره وملكه‏.‏

وفيها في شعبان جعل السلطان محمد قسيم الدولة سنقر البرسقي شحنة بالعراق وكان موصوفًا بالخير والدين وحسن العهد لم يفارق محمدًا في حروبه كلها‏.‏

وفيها أقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة فأجاب إلى ذلك‏.‏

وفيها في شهر رمضان وصل السلطان محمد إلى أصبهان فأمن أهلها ووثقوا بزوال ما كان يشملهم من الخبط والعسف والمصادرة وشتان بين خروجه منها هاربًا متخفيًان وعوده إليها سلطانًا متمكنًا وعدل في أهلها وأزال عنهم ما يكرهون وكف الأيدي المتطرقة إليهم من الجند وغيرهم فصارت كلمة العامي أقوى من كلمة الجندي ويد الجندي قاصرة عن العامي من هيبة وفيها كثر الجدري في كثير من البلدان لا سيما العراق فإنه كان به كله ومات به من الصبيان ما لا يحصى وتبعه وباء كثير وموت عظيم‏.‏

وتوفي في هذه السنة في شوال أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البرداني الحافظ ومولده سنة ست وعشرين وأربعمائة سمع ابن غيلان والبرمكي والعشاري وغيرهم‏.‏

وتوفي أبو المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال ومولده سنة ست عشرة وأربعمائة سمع أبا بكر البرقاني وأبا علي بن شاذان وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

وفي رابع جمادى الأولى توفي أبو الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر الفقيه الشافعي ومولده سنة تسع وأربعمائة وكان أديبًا شاعرًا فمن قوله‏:‏ من قال لي جاه ولي حشمة ولي قبول عند مولانا ولم يعد ذاك بنفع على صديقه لا كان من كانا وفيها أيضًا توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا وكان كاتبًا للخليفة جيد الكتابة وكان عمره سبعين سنة ولم يخلف وارثًا لأنه أسلم وأهله نصارى فلم يرثوه وكان يبخل إلا أنه كان كثير الصدقة وأبو المؤيد عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي كان واعظًا شاعرًا كاتبًا قدم بغداد ووعظ بها ونصر مذهب الأشعري وكان له قبول عظيم وخرج منها فمات